قانون حظر الحجاب في فرنسا ، حلقة 1
إرهاصات تشريع القانون :
إن أول من أوقد نار الحرب على “الحجاب الإسلامي” في فرنسا هي صحفية اسمها غزلان أوتنهايمر Ghislaine Ottenheimer . إذْ نشرت في يوم الثالث عشر يونيو من سنة 1989م، بمناسبة مرور عشرة أعوام على الثورة الإسلامية الإيرانية، تقريرا مصورا لصالح جريدة “لوكوتيديان دو باري” Quotidien de Paris Le ، تحت عنوان ” المشكلة الكبرى للإندماج” ، وأبرزت في هذا التقرير نزاعا محتدما بين بعض المعلمين في إحدى المدارس العمومية وبين بعض آباء التلاميذ، حيث كتبت أن : ”
المعلمين يحظرون – باسم العلمانية – على التلاميذ الصغار ارتداء الحجاب التقليدي ، في حين أن آباء بعض التلاميذ يتمسكون بحقهم القانوني في لباس أزياء تتماشى مع تعاليم أديانهم”.
وذكرت أوتنهايمر أن شرارة المشكلة انطلقت حين طلبت إحدى المعلمات من فتاة صغيرة ترتدي الشوذر (حجاب إيراني) أن تنزع حجابها نظرا لسخونة الجو ، فرفضت البنت الصغيرة أوامر المعلمة … أصرت الأخيرة على موقفها وأصرت الصغيرة على الإحتفاظ بحجابها.. ووصلت القضية إلى أروقة إدارة الأكاديمية المسؤولة عن تسيير المدرسة. وتصلبت المعلمة على موقفها كما تصلب والدا البنت على موقفهما وحقهما في ارتداء بنتهما لزيها الديني وفقا لما ينص عليه القانون من حرية للأديان.
وفي النهاية، حكمت الأكاديمية بأن للبنات الصغيرات الإحتفاظ بخُمُرهن في قاعة الدرس، ونزعها عند حرارة الجو في الصيف، كما اقترحت المعلمة.
انطلاقا من هذه القضية ، بدأ الإعلام في إثارة إشكالية ” الإندماج” التي سوف يُطلق عليها فيما بعد ” ظاهرة الحجاب الإسلامي” ، مما سيضطر الدولة إلى تشريع قوانين أقل ما يقال عنها أنها عنصرية، ومخالفة لمبادئ الديموقراطية ولحقوق الإنسان.
وفي بداية افتتاح السنة الدراسية من نفس العام، أي 1989، وبالتحديد في يوم 18 سبتمبر ، طرد مدير إحدى المدارس ثلاث بنات من أصول مغاربية من إعدادية جابرييل هافيز Gabriel-Havez في المنطقة الباريسية . واعترض الكثير من آباء التلاميذ ونقابة المعلمين ومسؤولو منظمات حقوق الإنسان على قرار المدير بطرد البنات المتحجبات من مدرسته.
والظاهر أن قرار الطرد لم يكن تربويا خالصا ، بل حمل صبغة سياسية واضحة؛ إذ أن مدير الإعدادية كان يشغل في نفس الوقت منصبا سياسيا في حزب اليمين آنذاك ، المسمى حزب التجمع من أجل الجمهورية RPR. و كان الرجل يتميز بميوله اليمينية المقاربة للتطرف تجاه الجاليات المسلمة.
وهذا المدير يُدعى “أرنست شينيير Ernest Chénière ” وهو فرنسي من أصول مارتينكية (إحدى جزر البحر الكاريبي التابعة لفرنسا)، ومن مواليد سنة 1945. ويعتبر أولَ سياسي أثار قضية الحجاب الإسلامي في الساحة السياسية الفرنسية.
وتمت مكافأته على طرد التلميذات المحجبات من المدرسة بترشيحه نائبا عن حزب اليمين في منطقة “الواز” L’Oise ، وانتُخب نائبا برلمانيا في الجمعية الوطنية لسنوات 1993-1997.
بالموازاة مع ذلك، أظهر بعض الإعلاميين أن في نفس الإعدادية عشرات الطالبات من أصول يهودية يتغيبن باستمرار كل جمعة بعد الظهر ، وكل صباح سبت ، ولم يتم طردهن ولا مضايقتهن… مما يوحي بنوع من التمييز واللامساواة لدى إدارة المدرسة إزاء بعض الطلاب…
وبعد ضغوط شديدة من منظمة محاربة العنصرية SOS Racisme ومن بعض النقابات التعليمية الأخرى ، تم قبول البنات من جديد في المدرسة. بشرط أن ينزعن خُمُرهن قبيل الدخول في حرم المدرسة.
وقد شكلت هذه القضية ـ فيما بعد – النواة الأولى للصراع الذي سيقع في السنوات اللاحقة بين متطرفي العلمانية وأهل الأديان. وسيسفر هذا الصراع عن إصدار ذلك القانون المثير للجدل المسمى ” قانون حظر الحجاب الإسلامي في المدارس العمومية” الذي صدر في ربيع سنة 2004 تحت رعاية الرئيس الفرنسي السالف جاك شيراك.
مباشرة بعد انتهاء قضية طرد البنات من إعدادية جابرييل هافيز Gabriel-Havez ، طُردت في نفس الشهر ، اكتوبر 1989، بنت مسلمة من أصل تونسي كانت تدرُس في إحدى الثانويات المهنية بمدينة مرسيلياMarseille . وكانت عملية الطرد هذه المرة ، أكثر عنفا وشراسة، حيث تجمّع كل معلمي الثانويات ومدراء المدارس في مرسيليا ووقفوا صفا واحدا مع المعلم الذي طرد المتحجبة، وأعلن مدير أكاديمية ” أكسان بروفيسن” Aix-en-Province للصحافة قائلا ( إن رجوع البنت للمدرسة لن يتم إلا تحت اسم العلمانية، لا يمكننا أبدا أن نساوم على مبادئنا، يتحتم على بنات مرسيليا أن يتعلمن كيفية العيش داخل الجمهورية) ”
في نفس اليوم الذي طُردت فيه الطالبة التونسية، طُرِدت أيضا طالبة أخرى من معهد مهني لتعليم الحلاقة في مدينة آفينيون Avignon وكانت ذريعة مدير المعهد أن الطالبة تلبس الحجاب الإسلامي، حينها هبت ثماني بنات من أصول مسلمة تدرسن في نفس المعهد ولبسن الحجاب تضامنا مع زميلتهن. وصرحت إحداهن للصحافة قائلة أن زميلتها المطرودة (“سعيدة” كانت تلبس حجابها منذ سنتين في الإعدادية ولم تقع أي مشكلة لها مع إدارة المدرسة ، وأنها كانت تلبس الحجاب منذ قدومها لهذا المعهد، ولم تقع أي مشكلة أيضا ، وفجأة تنفجر قضية الحجاب في فرنسا، فتجد “سعيدة” نفسها مطرودة من المعهد … )
واللافت أن الزخم الإعلامي الذي أحيط بظاهرة الحجاب في فرنسا تلك الأيام ، لم يُركّز إلا على الحجاب الذي تلبسه البنات المسلمات من أصول عربية ، أما الحجاب الذي ترتديه الإفريقيات مثلا فلم يُثِر أي اهتمام وتم التغاضي عنه من الإعلام و من طرف مدراء المؤسسات التعليمية آنذاك، مما يعني أن ثمت استهدافا خاصا للمسلمات من أصول عربية فقط. وفي هذا الصدد بالذات نشرت جريدة ” لوبروفنسال” Le provençal تحقيقا حول مدرسة قرآنية يرتاده تلاميذ من دولة جزر القمر، وعنونت الجريدة مقالها بـ” الحرب على الحجاب لن تكون” وذكرت الصحيفة أن الحجاب الذي ترتديه البنات من أصول جزر القمر ليس كمثل الحجاب الذي ترتديه بعض المتدينات (في إشارة إلى العربيات)، فهو – أي حجاب الجزرقمريات – عبارة عن قطع من القطن تمتاز بألوان زاهية ، خضراء، وحمراء وصفراء، وبعيد كل البعد من بعض الأحجبة المتقشفة التي تلبسها المسلمات الأخريات (أي من أصول عربية)، ”
ويجدر بالذكر أن هذه الضجة حول الحجاب تمت إثارتها أشهرا قليلة بعيد الفترة التي أصدر فيها سلمان رشدي كتابه “آيات شيطانية ” والذي تهجم فيه على الدين الإسلامي وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم … وأثار ضجة كبيرة في العالمين الإسلامي والعربي، وأهدرت إيران آنذاك دمه ؛ مما يوحي أن ثمت ارتباطا ما بين القضيتين : أعني قضية الهجوم على الإسلام من طرف كاتب إيراني ملحد من جهة ومن طرف الإعلام الفرنسي من جهة أخرى. وكأن هذا الإعلام بهيجانه على الحجاب الإسلامي أراد أن ينتقم بطريقته الخاصة لسلمان رشدي الذي ظل يعيش متخفيا بين دول الغرب خوفا من الإغتيال.